Blogger templates

19 يناير 2016



اختفت أصوات السيارات ولم يبقى سوى صوت أقدامه التي كانت تسحبه، بعد منتصف ليلة الثلاثين من نوفمر الفائت؛ في شارع الستين الشمالي بصنعاء؛ متجهاً إلى بيته وقد أعياه التعب وأنهكه المرض الذي هجم عليه فجأة.
البرد الذي يحاصره من كل اتجاه؛ قاده لوضع سماعة في أذنيه، أخرجها من جيبه الذي يحوي بعض من النقود وليس الكثير، وَضَعَها ليحاول نسيان تلك الليلة المُفعمة بالصقيع الصنعاني الذي يتسلل إلى مسامات الجلد ويصيب العظام بالكثير من الألم.
قرر، منصور الأصبحي، أن يطلب الدفء؛ بسماع صوت زوجته التي تنتظره في المنزل مع أطفالها الأربعة، كان صوت أقدامه عالياً هذه المرة على غير العادة وتصاحبها أصوات تلهث من سرعة المشي، تباطئ في خطواته المُسرعة التي تساعده على مقاومة البرد؛ ليكتشف أن هناك من يلحق به من الخلف ويحاول أن يسترق السمع.
شعر بالخوف قليلاً (الإصلاحيون عبثوا بتقاليد قريتنا وحولونا من مجتمع أسري مترابط إلى مجموعة أُسر تحقد على بعضها..) قال ذلك لزوجته ولم يكمل حديثه حتى شعر بأحدهم يسحبه من الخلف لإيقافه ويغدقه بعديد من الأسئلة عن أنصار الله ومحاولة أخذه إلى "المكتب" بعد أن صادر -بمعية شخص آخر- هاتفه المحمول وأغلق السماعة؛ بتعنت.
ولأن وضعه الصحي لا يحتمل التأخير -فهو بحاجة إلى حبات اسبرين- طرح عليهم خيار أن يأخذوا هاتفه ويتركوه ليعود إلى منزله؛ إلا أن محاولته بائت بالفشل وتم اقتياده إلى مكتب أنصار الله – الكائن في مدخل "السنينة" المؤدي إلى "كلية الناصر" وهو سكن طلابي للإصلاح سابقاً.
سؤال بعد آخر تم وضعهم عليه "ما رأيك بأنصار الله؟ لماذا لم تستجب لطلب أعضائنا سريعاً وأهدرت وقتهم؟ قدّم لنا ما لديك من معلومات لتكون أحد الوطنيين الغيورين على وطنهم" ولأنه لا يدري لماذا تم اقتياده فقد سألهم عن سبب تواجده لديهم ومن هم الذين اعترضوا طريقه فهم لم يعرضوا عليه هوياتهم، ربما كان سؤاله كافياً لأن يتم احتجازه، أو ربما لهجته التعزية أثارت لديهم المناطقية لا سيما أن فِكره المدني مُعارض للهمجية ومؤيد لدولة القانون وليس لدولة قوة السلاح.
"أعضائنا ذلحين عيوروك من احنا، نزلوه تحت" صرخ ذلك المكنى بأبو الـ.".." وقاموا بحذف ما يحويه الهاتف من معلومات شخصية وأودعوه في البدروم الذي يُعد معتقل الحالات "المختلفة!".
برفقة رجلين من "الصومال" متهمان بسرقة قات؛ تلقى ضيافته، اعتداء جسدي، نبذ مناطقي، منعه من استخدام العلاج، ليس منعه بالمعنى الحقيقي ولكن ما حدث أنه يعاني من مرض طفيف وأخبرهم أنه بحاجة لهم، لا يريد أن يُخبر زوجته التي تترقب عودته، لا يريد الاستنجاد بأحد لإخراجه من المعتقل الخاص بهم، كل ما يريد هو كبسولات "اسبرين" من الصيدلية لتخفف من ألم جسده المتراخي ألماً "لو سمحت أنا تعبان، هذه فلوس روح اشتري لي حبوب من الصيدلية" كان هذا طلبه الوحيد من أحدهم حينما كان يقبع في البدروم.
"رصاصتين في راسك وأنت عترتاح من المرض" الرد الذي استقبله بغرابة، ولأنه شعّر حينها أن إنسانيته مُهدرة فقد طلب منه أن يفعل ذلك؛ فالقتل -كما يقول- هو ما يجيدوه وليس شيء آخر، لكن ذلك الشخص لم يكن بهذه القسوة؛ فقط انهال عليه بأقدامه رفساً ليترك ألماً في جسده لا تداويه الكبسولات، وألم في كرامته لن تمحيها الأيام ولا السنوات.
ثلاثون ساعة قضاها في ضيافتهم، نعتوه خلالها بـ"العرعور التعزي" وأنهالوا عليه ضرباً مجدداً، لم يكن يعرف سبب اعتقاله، لكنه يتجرع المرارة والخوف المستمر، ثلاثون ساعة بلا نوم، بلا غذاء وحتى بلا دواء، ولأن الظلم لا يستمر فقد ألقت ما يسمى بـ"اللجان الشعبية" القبض على شخص آخر بتهمة (نغمة جوال) وبعد التحقيق معه استمع إليهم وهم يتوعدوا (العرعور التعزي) بالمزيد، تم زجه في المعتقل بجانب "منصور" وبعد هنيهات أخبره بما استمع وطلب منه رقم هاتف أي شخص ليقوم بإبلاغه وكان ذلك، قام بالتواصل مع الزميل "معاذ المقطري" الذي هرع مسرعاً إلى المكتب بصحبة صديقاً له، سأل عنه لكنهم أنكروا وجوده، وبعد محاولات عدة تم اطلاق سراحه.
أطلقوا سراحه بعد أن قضى تلك الساعات المخيفة التي كانت كفيلة لأن تمحو من مخيلته الآثار المترتبة على خليفة الاعتداء عليه من قبل اللجان الأمنية للإصلاح أثناء تواجده في ساحة تغيير صنعاء، ساعات كانت كفيلة لأن تسرق منه نصف ما تبقى من جسده المرهق بالعمل من أجل الإنسان وكرامته وتوفير لقمة العيش الكريمة والآمنة.
أطلقوا جسده ليمضي -بعد أن جعلوه يبصم على ورقتين- لكن روحه بقت هناك ملقية تحت أقدامهم التي تكسوها أحذية متعفنة؛ بقت هناك تتألم، تتدمر، تتذكر كل لحظة عاشها مع خياله الذي استحضر أفلام هوليود التي تتحدث عن مآسي المساجين وما يحدث لهم من انتهاكات مختلفة.
مازال منصور يحيا روحياً في المعتقل، تراوده الحيرة والآسف لما تعرض له، ويتذمر كلما سمع عن اعتقال أناس آخرون، يتسائل دوماً هل يتعرض كل المعتقلين لما تعرض له أم أنهم يعانوا أكثر؟
إن المدنية ودولة القانون التي تحيا فيه ويحلم بها دوماً؛ تأنبه على العمل من أجل الوطن وأبناءه المعتقلين الآخرين وهذا ما جعله يتحدث في صفحته على الفيس بوك بقوله (ﺇﻟﻰ ﺯﻣﻼﺋﻲ ﺍﻷﻋﺰﺍء ﻭﺇﻟﻰ ﻛﻞ ﻋﺸﺎﻕ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﺮﺅﻳﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎﻡ.. ﺃﺑﺸﺮﻛﻢ ﺃﻥ ﻗﻀﻴﺘﻲ ﻣﻊ ﻣﻠﻴﺸﻴﺎﺕ ﺍﻟﺤﻮﺛﻲ ﻗﻀﻴﺔ ﺭﺃﻱ ﻋﺎﻡ ﻭﺳﺘﺄﺧﺬ ﺣﻘﻬﺎ ﺍﻟﻤﻮﺿﻮﻋﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺮﺍﻓﻊ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻲ ﻭﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﺣﺘﻰ ﻻ ﺃﺧﻴﺐ ﻇﻨﻜﻢ، ﻭﻻ ﺃﻧﺴﻰ ﺃﻧﻲ ﺟﺰء ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮﻣﺔ ﻣﺪﻧﻴﺔ ﺧﻼﻗﺔ ﻫﻲ ﺃﻧﺘﻢ، ﻭﺭﺑﻤﺎ ﻟﻴﺴﻠﻢ ﻛﻞ ﻧﺸﻄﺎء ﻭﺃﻓﺮﺍﺩ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻤﺪﻧﻲ ﻣﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﻜﺬﺍ ﻋﺼﺎﺑﺔ ﻻ ﺗﺤﺘﻜﻢ ﺇﻻ ﻟﻠﻌﻨﻒ ﻭﺍﻹﺭﻫﺎﺏ ﺧﺎﺭﺝ ﺇﻃﺎﺭ الدولة.
إلى قيادة أنصار الله:
لماذا تريدون منّا أن نحقد عليكم ونخافكم كديكاتوريين؟ الأنطمة التي سبقتكم - بكل مساوءها- لم يقترف أتباعها مثل أخطائكم، لماذا تصرّون على نسف ايجابياتكم بانتهاكات لا يُغفر لها؟ إذا كنتم ترون أنكم الأقوى فتذكروا قوة الله التي تقودون مسيرة كتابه، تذكروا إن الشرخ الذي تحدثوه لن يلتئم.
الاعتذار ببيان رسمي ونشره إعلامياً لن يكون كافياً ومعاقبة المتركبين في هذا الحدث لا يكفي أيضاً، يجب أن توقفوا انتهاكاتكم، قد يكون هذا كافياً في المستقبل لكنها لن تعيد كرامة منصور التي احتقرتوها بمناطقية، وقمتم بإهانة إنسانيته التي كرّمَها الله بقوله (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).

عن المدون عبدالرزاق العزعزي

صحفي من اليمن، مهتم بالقضايا المجتمعية
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد