![]() |
عبدالرزاق العزعزي |
ما الذي يدفع شاب مثلي لأهجر وطني الذي نشأت فيه؛
غير الألم والوضع الصعب الذي عشته بعد تلك الثورة التي انحرفت عن مسارها
بفعل قيادة الأحزاب التي خرجت عن مبادئ عملها الذي تأسست من أجله وانخرط في صفوفها
الكثير ممن يحلمون بوطن أجمل للجميع، إلا أن من حصد استفادة شخصية تناسى بقية
المواطنين، تمامًا كقياداتهم.
ما الذي دفعني لترك كل ذكرياتي ومكتبتي ومقتنياتي
ومعظم ملابسي وجيتاري الذي حصلت هدية وسماعتي الكبيرة ومسجلتي متعددة الأغراض
وغسالتي وأدوات المطبخ وكاوية ملابسي وأحذيتي وأخذت فقط ما أستطيع حمله لاعانتي في رحلة خروج قد تكون بلا عودة.
ما الذي دفعني لبيع أثاث منزل بالكامل بقيمة لا
تصل إلى سبع مائة دولار مع دراجة هوائية تحمل ذكريات قيمة والتخلي عن ذكريات
تشكّلت مع تلك الأثاث وحياة من استخدمها، وانفاق تلك الأموال في رحلة بحرية على
قارب الموت وسط برودة الليل وشمس
الظهيرة بدون طعام ولا شراب لأجد نفسي في مكان آخر عن ذلك الذي كان يومًا موطني
وأناضل من أجله.
ما الذي يدفعني لبدء حياة جديدة بعد الثامنة
والعشرين من عمري قضيتها في اتمام دراستي وحصولي على عدد من دبلومات التأهيل
الحقوقي والسياسي والتربية المدنية ناهيك عن دورات مشاركة في المجال الإلكتروني
ومجالي الإعلامي على أيادٍ دولية ومحلية عوضًا عن تخرجي من قسم الصحافة في كلية إ علام صنعاء.
ما الذي يدفعني لذلك غير البحث عن حياة هادئة
تمنحني حقي كمواطن وإنسان.
لنفترض أن اليمن أمًا لي: ما الذي قدَمته لي
كمواطن غير حكومة لم تهتم بي، ومجتمع أغلبيته لم يقبل بي ولم يمنحني حق اعتناق
أفكاري بحرية، وعقل لا يقبل التعبئة التي حاولوا ويحاولوا غرسها فيك غصبًا.
اليمن دولة وإنسانًا قيدت حريتي ومنعتني حقي،
أبسطها عمل يعينني على دفع إيجار منزلي وشرب ماء نقي والتنقل بين شوارعها دون
الخوف من مؤجر يرمي بأشيائي خارجًا أو يغلق عليها حين أكون بالخارج في حال عدم
تمكني من منحه نقوده الشهرية التي تجبرني القبول بأي خيار للعمل دون قانون يحميني
ودولة تقف إلى جانبي وليس إلى جانب من يملك علاقات أقوى أو نقودًا أكثر.
اليمن كدولة لم تقدم لي حقوقي بل سلبتها وصفق
الشعب لها حتى كشّرت عن أنيابها وعرقلت معاملاتي في مؤسساتها الخدمية وتعامل معي
موظفوها بلا مسئولية واهتموا لما يجنوه وليس لما يقدموه لي كمواطن مسحوق، مغلوب، بائس، باحث عن حياة
سرقتها الحرب مؤخرًا وزادت بي المعاناة حد فقداني المستقبل وضياع الحاضر.
اليمن كدولة عيرتني لخدماتها منتهية الصلاحية
وطلبت مني شكرها على ذلك.
بالنسبة لي؛ اليمن ليست سوى جغرافيا لها تاريخ
جميل ومليء بالصراع وحاضر تحوي أمي التي تدعو لي بالتوفيق مرارًا وتكرارًا وأبي
الذي يحاول تعليمي قيّم العمل من أجل إنسان يمني مسحوق وغير متعلم لدرجة خداعه
بسهولة وبالرخيص أحيايين كثيرة.
لن أشتاق لليمن أرضًا ولا إنسانًا فوطني هي الأرض،
سأشتاق فقط لأمي وأبي وأخواتي وإخوتي وأصدقائي الذين اخترهم حين كبرت وليس الذين
فُرضوا عليّ حين كنت طفلًا.
مثل غيري من الذين عانوا كما عانيت؛ سأبحث عن فرصة
للنجاة، للحياة، للحب والسلام والعيش الكريم، للوطن الذي يمنحني حقي ويأخذ حقه،
سأبحث عن ذلك الضوء الذي قطعوه عنا وأناروه لأنفسهم وأطفالهم والمحيطين بهم؛
تاركين أمثالي يوشيهم الخوف من الغد إن لم تكن اللحظة.
هناك فرصة للبدء، دائمًا، وأخرى للتوقف وترقب ما
سيحدث، وهو الذي سيكون مشابهًا لما كان في أفضل تقدير.
الوقت يمضي ولم يعد لديّ الكثير لأعيشه، سأترك تلك
المساحة لمن يتصارع من أجلها، لا يعنيني أمرها فلم أكن أحد المتصارعين عليها؛ بل
أحد الذين يصارعون من أجل البقاء فيها وقد أعياني التعب وبدأت أفقد ذلك البريق
الذي كان يومًا يشتعل بداخلي فاستغلوه باسم التطوع وحصدوا خلاله الكثير وبخلوا
عليّ بالفتات الذي رموه لي.
السودان الآن موطني.. وان ضاق سيكون لي وطنًا
آخر.. ومهما حاولوا -بنظامهم- منعي من الحياة، سأحاول -بإنسانيتي- العيش؛ ما دمت
أملك رغبة البقاء حيًا.
..
*مايو 2015
ليست هناك تعليقات :