Blogger templates

26 مايو 2016

عبدالرزاق العزعزي:

إستعدت اليوم اهتماماتي في متابعة أخبار الفلك، وآخر الصّور للظّواهر الغريبة على كوكب الأرض، التي يتمّ التقاطها من قبل روّاد محطّة الفضاء الدولية.

بدايةٌ جيدة ليوم جميل للغاية، بعد أن تمكّنت البارحة من وضع رأسي على وسادتي، ونمت بلا همومٍ كانت قد حاصرتني منذ 14 يومًا مضت، قضيتُها في البحث عن منزل وسكن يلمّني وزوجتي، في بلد لجأتُ إليها كنازحٍ يحاول أن يعيش حياته بعيدًا عن الحرب والحصار، والشّعارات المناطقية والمماحكات السياسية، والإنقسامات المجتمعية الناتجة من اختلاف الآراء فقط!

كانت السودان الإختيار الوحيد المتاح لي. لا أعرف فيها أحدًا لكنّ البقاء في اليمن يعني أن تهدر حياتك من أجل لا شيء. وخلال هذا الإهدار العبثي فأنت من المحتمل أنّك ستخسر أصدقاءك بسبب الرأي، أصدقاء بسيطين ومثقفين، جميعهم يتشابهون في ردّة الفعل عندما يتعلّق الأمر بالموقف السياسي. يشبهون كثيرًا (إذا لم تكن معي فأنت ضدّي) ومعنى أن تكون (ضدّ) هو تحمّل ما قد ينتج من هذا العداء. أحدهم (أنور الوزير) دفع ثمنه حياته أمام باب منزله والآخر (الزميل محمد شمسان) قام صديقه بالإبلاغ عنه، فور الإنتهاء من وجبة غداء في منزل شمسان، وتمّ اعتقاله ثم الإفراج عنه لاحقًا.


بإمكان العمل السياسي غير الواعي أن يعمل على تغيير ملامح الناس وطباعهم وتفكّك شملهم، النقود كذلك بإمكانها أن تفعل الشيء ذاته، ولكن ليس في اليمن بل في السودان البلد البرجوازي، ضيّق الأفق، المادّي بامتياز. كنت قد اطّلعت على رؤية (كارل ماركس) للبرجوازية وكيف يمكنها أن تقدّم مفاهيم خاطئة حول العالم، وكيف تنظر الماركسية للبرجوازية بأنّها قد تحوّل الخدمات لمقابلٍ نقديٍ وتستطيع شراء مجهود الناس، ولكنّي لم أكن أتصور أبدًا أنّها بهذه البشاعة حدّ القرف، لم أكن أتصور أنّي سأعاني قذارتها في بلدٍ كان أبناؤه مدرّسين في اليمن. برجوازيون أوغاد يعملون على إدارة الأمور بحسب نظرتهم المادّية فقط، برجوازيةٌ تعتمد على الإهتمام بالمصلحة المادية أولًا فوق كل اعتبار.

"أنا نازح في السودان من سعير الحرب في اليمن"، قلتُها لمالك عقارٍ سوداني في اليوم السادس من رحلة بحثي عن سكن، لم أكن أطلب منه أن ينظر لي بعين الرّحمة أو يهبَني شيئًا، ولكنّي قصدت أنّي سأحترم نفسي في سكني، ولن أكون ثقيلًا أو مزعجًا ولن يزورني أصدقاء، فلا أصدقاء لديّ هنا. دفعت له عربون الايجار واتّفقنا على استلام المفتاح اليوم التالي وتسليمه بقيّة الايجار ومقدّم شهرين. سعِدت بحصولي على منزل جديد، واحتفلت مع زوجتي، وشاركت فرحتي مع أصدقائي في الفيس بوك، لأتفاجأ اليوم التالي بتهرّب صاحب العقار، حتّى وجدته اليوم الثالث لنتفق مجدّدًا وبسعر جديد على قيمة الإيجار، وأسمع "كلام رجال" بأنّ البيت سيكون من نصيبي. إلا أنّه في اليوم التالي لذلك صحَوت على اتصال منه، يقول فيه إنّه لن يعطيني المنزل -ربما حصل على مبلغ أعلى- وتمّ إعادة العربون، وكلام الرجال تمحوه النقود.


المنزل التالي وجدناه في منطقة أخرى، صادفت الشّخصيات نفسها، وكأنّني خزّان نقود فقط بمنطق برجوازي بحت. قد لا تكون لديّ مشكلة مع النقود (حاليًا)، لكن ثمّة مشاكل في طريقة التّعامل. مثلًا يجتمع السماسرة حولك ليمنحوك شقة، ثم يخبرونك بأنهم سيأخذون منك بدل سمسرة ما معدّله يتراوح بين 100 و200 بالمائة من قيمة العقار. الأكثر قسوة من ذلك هو حين تخبرهم بأنك لا تستطيع أن تمنحهم المبالغ التي يطلبونها، فيتحدثون معك كونك بروليتاري رثّ، فيستفزّهم بعدها مشاهدتي بالنظّارة الشمسية، ورؤية زوجتي متأنقة، ويرمون بالكلام بطريقة مزعجة، إمّا أن تستجيب لطلباتهم في استغلالك أو ستكون غير مرغوب فيه.

تسعة أشهر عشتها في السودان بعيدًا عن الإحتكاك مع المجتمع، عشتها بانزواء وفردية، وحين أتت اللّحظة التي دفعتني إلى التعامل (المادّي) مع مالكي الخدمات والعقارات، كانت مؤلمةً للغاية.

مازال هذا الصباح يحوي الخير، ومازال هناك بعض سودانيين من أصحاب العقارات ومقدمي الخدمات لم تلتهمهم البرجوازية، وأخصّ بالذكر صديقَين تعرّفت عليهما أثناء رحلتي في البحث عن سكن، الصديق محمد عمر والصديق حسن المتعافى، لولاهما لكنت آمنت بأن المجتمع السوداني كلّه يتشابه، وددت أيضًا أن أشكرهما على إنسانيتهما في التّعاطي مع قضية السكن والتّعامل معنا بكل رقي.


..
منشور في موقع العربي

عن المدون عبدالرزاق العزعزي

صحفي من اليمن، مهتم بالقضايا المجتمعية
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد